ابن سودون: ذلك الشاعر المرح

الاثنين، 28 سبتمبر 2009

سآخذك معي في رحلة قصيرة لندخل في عالم شاعر خفيف الظل اتخذ المرح والفكاهة منهجاً في حياته، له ديوان يُسمى (نزهة النفوس ومضحك العبوس)، (ابن سودون) شخصية طريفة في الأدب المصري الشعبي، عاش في العصر المملوكي، وهو خليفة جحا بلا منازع، برغم عدم اشتهاره، وقد أفرد له الدكتور شوقي ضيف مساحة مقدرة في كتابة (الفكاهة في مصر)، ابن سودون يعتمد في فكاهاته على المفارقة المنطقية، فهو يحكي لك عن بعض البديهيات والثوابت وكأنها من عجائب الزمان، ويسرد لك أشياء مسرفة في البداهة بجديّة وكأنه أول من اكتشفها، وفي مفارقاته يطوي ضروباً من التباله وإظهار الغفلة، وكأنه كائن أتى للأرض من كوكب آخر، يستغرب لكل ما يراه، اقرأ هذه الأبيات والتي بعدها وستعرف مقصدي.

البحر بحر والنخيل نخيل ... والفيل فيل والزراف طويل

والأرض أرضٌ والسماء خلافها... والطير فيما بينهن يجول

وإذا تعاصفت الرياح بروضة ... فالأرض تثبت والغصون تميل

والماء يمشي فوق رمل قاعد ... ويرى له مهما مشى سيلول

على الرغم من أنه لم يأت بجديد إلاّ أنه قد يجبرك على الابتسام، ويروي لك أبسط الأشياء بسذاجة هيأته أن يصف كل ما يتصف به. !


لـ ابن سودون كذلك مفارقات مضحكة في الأبيات التالية:

إذا ما الفتى في الناس بالعقل قد سما ... تبين أن الأرض من فوقها السما

وأن السما من تحتها الأرض لم تزل ... وبينهما أشياء إذا ظهرت تُرى

وكم عجب عندي بمصر وغيرها ... فمصر بها نيل على الطين قد جرى

وفي نيلها من نام بالليل بلّه ... وليست تبلّ الشمس من نام في الضحى

بها الفجر قبل الشمس يظهر دائماً ... بها الظهر قبل العصر قيل بلا مرا

تكون قد لاحظت أن هزل ابن سودون يعتمد على المفارقة، وقد تقرأ شعره فتظنه إما أحمق أم مخبول أو كلاهما، وهو في أبياته يبدأ حديثه بجدية أن الإنسان عندما يسمو عقله يستطيع أن يصل إلى معارف دقيقة من بينها أن الأرض من فوقها السماء، وأن السماء فوق الأرض وأن بينهما أشياء نشاهدها، وهذا الاستنتاج كما ترى لا يحتاج إلى نخوة أو عبقرية فذة.!

ويخبرك كأنه أكتشف الذرّة لتوّه أن مصر بها نيل يجري على الطين، وأن من نام به في الليل يصاب بـ البلل، ثم يثبت لك نظرية مهمة وهي أن الشمس لا تبل من ينام تحتها في الضحى، ويفيدك بمعلومة خطيرة وهي أن الفجر بمصر يظهر قبل الشمس، وأن الظهر يتقدم العصر، ويؤكد لك ذلك وكأنه شيء مشكوك فيه، ويقول لك أن هذه حقيقة وليس محض مراء.!

يأخذك بعددها في نقلة ليريك بعض الغرائب في البلاد التي زارها، وما رآه هناك من عجائب وغرائب فيقول:

وفي الشام أقوام إذا ما رأيتهم ... ترى ظهر كل منهم وهو من ورا

بها البدر حال الغيم يخفي ضياؤه ... بها الشمس حال الصحو يبدو لها ضيا

وتسخن فيها النار في الصيف دائماً ... ويبرد فيها الماء في زمن الشتا

يخبرك أن بالشام أناس ظهر كلّ منهم وراءه، يقول لك هذا وكأنه قسّم الناس إلى قسمين: قسم في الشام إذا ما رأيتهم عجبت منهم لأن ظهورهم وراءهم، وكأن هذا من عجائب الأمور في الشام، والآخرون ظهورهم لعلّها أمامهم، وهو لم يتعجب من هؤلاء، لأنك تعرفهم وهو يريد أن يخبرك بالمجهول في الشام، وبأن هذه هي قصة الناس هناك.

ويثبت لك في البيت الثاني بأنه يمتاز بحس جغرافي سليم، لأن اكتشف هنالك أن البدر عندما تظهر الغيوم يختفي ضياؤه، وأما شمسهم فإن ضياءها ينتشر حال الصحو.! وبعدها يتبختر ويزهو بإمكانياته في الفيزياء ليخبرك أن في الشام تسخن النار في الصيف، ويبرد الماء في الشتاء، وهو كما ترى لم يأت بجديد، ولكنه يجبرك على الاستغراب على كل حال.!


أما أغرب ما قاله، أبياتاً تجعلك تظن أنه أسرف من الأشياء التي يستعملها قبل قرض الشعر، اقرأ معي:

ومن قد رأى في الهند شيئاً بعينه ... فذاك له في الهند بالعين قد رأى

فيها رجال هم خلاف نسائهم ... لأنهم تبدو بأوجههم لحى

ومن قد مشى وسط النهار بطرقها ... تراه بها وسط النهار وقد مشى

وما علمتني ذاك أمي ولا أبي ... ولا امرأة قد زوجاني ولا حما

ينتقل بنا ابن سودون إلى الهند، فيخبرنا أن من رأى في الهند شيئاً بعينه، فقد رآه بعينه، وهو لم يصنع شيء سوى أنه أعاد علينا في الشطر الثاني من بيته ما قاله في الشطر الأول، وأخذ يعرّفنا أن الرجال في الهند يختلفون عن النساء اختلافاً بيّناً، لما لهم من لحى يرسلونها، وكأنها خاصة من خواص الهنود دون سواهم من العالمين، ويقول لك أن من يمشى في شوارع الهند وسط النهار، تراه وسط النهار وقد مشى.! وتحس من كلامه أن هذه المعلومات الخطيرة قد تعب ابن سودون في تحصيلها، وقد تعلمها باجتهاده، ورحلاته في أقطار الأرض، وما تعلمها من أبيه ولا أمه ولا من زوجته ولا من حماته، وإنما تعلمها من مشاهداته ورحلاته وفطنته وذكائه.!

المصدر: كتاب الفكاهة في مصر - د. شوقي ضيف

0 التعليقات:

إرسال تعليق